علاء المعري وقصيدة غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي تأملات في الحياة والموت
علاء الدين المعري هو شاعر وفيلسوف عربي عاش في العصر العباسي، وتحديدًا بين القرنين العاشر والحادي عشر
الميلاديين (973-1057 م). وُلد في مدينة معرة النعمان في سوريا، وقد اشتُهر بلقب “رهين المحبسين” نظرًا لأنه
عاش في عزلة اختارها بنفسه، وكان قد فقد بصره منذ صغره، مما زاد من عزلته وتأملاته في الحياة والموت والكون.
“رهين المحبسين”: هذا اللقب الذي ارتبط به يعبر عن حالته النفسية والبدنية، حيث فقد بصره في
سن الرابعة واختار بعد ذلك العزلة، مما جعل تأملاته أكثر عمقًا وتجردًا عن متاع الدنيا.
نشأة المعري وفلسفته
وُلد علاء الدين المعري في أسرة معروفة بالعلم والأدب، وتلقى تعليمه في مدينة معرة النعمان وحلب وبغداد. رغم
فقدانه للبصر في سن الرابعة من عمره، إلا أن ذلك لم يمنعه من التعلم والقراءة، حيث حفظ القرآن ودرس علوم
اللغة والنحو والبلاغة، مما جعله أحد أبرز علماء عصره. كانت فلسفته تتسم بنظرة متشائمة تجاه الحياة، فكان يرى
أن الحياة مليئة بالآلام والمصاعب، وأن السعادة في الحياة أمر نادر. وبسبب تأمله العميق في طبيعة الوجود ومصير
الإنسان، صبغت أشعاره بطابع فلسفي يتساءل عن الغاية من الحياة ويشكك في الكثير من المعتقدات والتقاليد.
“فيلسوف التشاؤم”: يصفه البعض بأنه فيلسوف التشاؤم، إذ كانت رؤيته للحياة تتسم بنظرة متشائمة وواقعية تجاه ما فيها من ألم وفناء. لكنه في نفس الوقت كان يسعى إلى الحكمة والتفكر في الغايات الأعمق للوجود.
قصيدة “غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي”
تُعد قصيدة “غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي” من أشهر قصائد علاء الدين المعري، وهي جزء من ديوانه سقط الزند.
القصيدة تحمل معاني فلسفية عميقة وتعكس نظرته المتشائمة نحو الحياة، حيث يرى أن الحياة مليئة بالتناقضات
والمصاعب، وأن الموت هو الحقيقة التي لا مفر منها. وفي هذه القصيدة، يتحدث المعري عن عدم جدوى الحياة،
وعن فناء البشر، وكيف أن القبور تصبح مصير الجميع.
وهنا ستجد كتابة للقصيدة بصورة مبسطة وسهلة للقراءة والفهم
- في نظري، لا فائدة من بكاء الحزين أو غناء السعيد، فكلاهما لا يُغيّر من حال الحياة.
- صوت النعي (البكاء على الموتى) يشبه صوت البشارة، فكلاهما لا فرق بينهما عندما يتعلق الأمر بحقيقة الحياة.
- هل تلك الحمامة تبكي أم تغني على غصنها المتمايل؟ لا نعلم.
- انظر حولك، القبور تملأ المكان، فأين هي قبور الأجيال السابقة كقوم عاد؟
- خفف خطواتك على الأرض، فأرضها تكاد تكون مكونة من أجساد الموتى.
- إن دفن الأجداد في الأرض هو تذكير لنا، رغم مرور الزمن، بأن الاحترام لآبائنا وأجدادنا واجب.
- إن استطعت التحليق في السماء، فكن هادئاً ولا تتفاخر على بقايا البشر.
- كم من قبر صار قبراً لعدة أجيال، وكأنه يسخر من ازدحام الأحياء والموتى.
- كل جيل يُدفن فوق جيل آخر، على مر الزمن.
- اسأل النجوم عن من كانوا هنا واختفوا، فهم شهدوا زوال الأمم وبقاء الأرض.
- كل الحياة هي تعب ومعاناة، والعجيب أن هناك من يتمنى أن يعيش أطول.
- الحزن عند الموت أكبر بكثير من الفرح عند الميلاد.
- الناس خُلقوا للحياة، لكنهم يظنون أن مصيرهم هو الفناء.
- إنما ينتقل الإنسان من دار الأعمال إلى دار السعادة أو الشقاء.
- الموت هو راحة للجسد، والحياة تشبه الأرق الدائم.
- يا طيور الحزن، ساعدنني أو قلن لي كيف أتعزى في هذه الحياة، فأنتن تعرفن كيف تحتفظن بالوفاء.
- رغم حبكم للراحلين، لا أتفق معكن في ارتداء الزينة بدلاً من الحداد.
- ارتدين ملابس الحداد وعبّرن عن الحزن في المآتم.
- الموت أخذ منا أشخاصاً أحببناهم وكانوا حكيمين ومعتدلين.
- قدّموا لهم الوداع بنقاء، وادفنوا ذكراهم في قلوبكم.
- ودّعوا هذا الشخص بالصلاة والدعاء، وليس بالنحيب والأنين.
- الحياة مليئة بالتعب، ولكن لا يُغني البكاء والاجتهاد في إعادتها.
- مثلما فاتت الصلاة على النبي سليمان، وأخذ ينحر الخيول من حزنه.
- وهو الذي كانت له السلطة على الإنس والجن، ولكنه خاف من غدر الزمن.
- لذا وضع وريثه في الرياح ليحفظه من الخيانة.
- الحياة متقلبة، ولا أحد يضمن البقاء فيها، فلا تغتر بمظاهرها الزائلة.
واليك بعض الأبيات من القصيدة:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْ نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
“صوت العقل في زمن الأساطير”: لعلاء الدين المعري رؤية عقلانية تجاه العديد من الأمور التي كانت تُعتبر مسلمات في زمنه. وكان دائمًا ما يتساءل ويتشكك في الحقائق والمفاهيم الراسخة، مما جعله مثالًا للعقلانية في زمن شاع فيه الخرافات والأساطير.
شرح بعض الأبيات
- غيرُ مُجدٍ في مِلّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شادي: يعبر المعري في هذا البيت عن عدم جدوى البكاء أو الغناء في نظره. فهو يرى أن الحياة لا تستحق الحزن ولا الفرح.
- وشبيهٌ صَوْتُ النَّعيِّ إذا قيس بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ: يصف المعري هنا تناقضات الحياة، حيث يشبه صوت النعي (البكاء على الموتى) بصوت البشارة. فهو يشير إلى أن كلاهما يتساوى أمام حقيقة الموت.
- أبَكَتْ تلكمُ الحَمَامَةُ أم غنّت على فَرْعِ غُصنها الميّادِ؟: يتساءل هنا إن كانت الحمامة تبكي أم تغني، ما يعكس عدم اليقين في معرفة الحقيقة والغاية من مشاعر الكائنات.
- صاحِ، هذي قبورُنا تملأ الرُّحبَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟: يشير إلى مرور الزمن وفناء البشر، حيث تملأ القبور الأرض، ويتساءل عن مصير القبور القديمة مثل قبور قوم عاد الذين اندثروا.
- خفّفِ الوَطءَ ما أظنُّ أَدِيمَ الأرض إلا من هذه الأجسادِ: يوصي بتخفيف الخطى على الأرض، مشيرًا إلى أن الأرض تكاد تكون مصنوعة من الأجساد التي دُفنت فيها عبر العصور.
- رُبّ لَحدٍ قد صارَ لَحداً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ: يتحدث هنا عن القبور التي أصبحت قبورًا لأناس مختلفين على مر العصور، مما يشير إلى استمرارية الموت وتناقضات الحياة.
- ودَفينٍ على بقايا دفينٍ في طويلِ الأزمانِ والآبادِ: يشير إلى أن الأموات الجدد يدفنون فوق بقايا الأموات السابقين، في صورة تعكس تتابع الأجيال وتوالي الحياة والموت.
التأمل الفلسفي في القصيدة
تُظهر القصيدة فلسفة علاء الدين المعري التي تركز على طبيعة الحياة والموت، حيث يشكك في أهمية الحياة
وفي جدوى الحزن والفرح. كما تعكس نظرته إلى الزمن وكيف أن الموت هو القاسم المشترك بين البشر عبر
العصور. ويُعتبر أسلوبه في هذه القصيدة جريئًا، حيث يُظهر رفضه للتقاليد السائدة في مجتمعه وتفكيره الحر
والمستقل.
أثر علاء الدين المعري
يُعتبر علاء الدين المعري من الشخصيات الأدبية الفريدة في التراث العربي. فقد جمع بين المعرفة العميقة والأدب
الرفيع، وكان له أثر كبير في الفكر الفلسفي العربي والإسلامي. وقد تناول في كتاباته الكثير من القضايا الوجودية
والأسئلة الفلسفية، مما جعله محط إعجاب وتقدير من قبل القراء والباحثين على مر العصور.
في النهاية، يبقى علاء الدين المعري شاعرًا وفيلسوفًا يحمل الكثير من التأملات والأسئلة حول الإنسان والحياة
والموت، وتعكس قصيدته “غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي” أحد أبرز إبداعاته الشعرية التي تظل صالحة للتأمل
والقراءة حتى يومنا هذا.