متى يعلنون وفاة العرب: صرخة نزار قباني في وجه الواقع العربي
قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب” لنزار قباني، التي كتبها الشاعر عام 1992، تُعدّ إحدى أكثر القصائد
العربية انتقادًا للواقع العربي المعاصر، إذ يعبر من خلالها عن غضبه وإحباطه تجاه حالة العالم العربي، خاصة
بعد أحداث مؤلمة ومتوالية لم تزل تلقي بظلالها الثقيلة على الشعوب. القصيدة تحمل نبرة عتاب مؤثرة، كما
أن مفرداتها تختزل غضبًا وأسفًا عميقين تجاه انعدام الوحدة، وضعف الهمة، وتراجع الموقف العربي في العالم.
مضمون القصيدة
تبدأ القصيدة بطرح سؤال متكرر وشجاع عن توقيت إعلان “وفاة العرب” مجازيًا، حيث يستخدم نزار قباني تعبير
“الوفاة” كناية عن فقدان الإحساس والشعور الوطني والإرادة السياسية. ينتقل في أبياتها بين وصف لحال الأمة
وتدني أحوالها ومكانتها، إذ يعبر عن شعور اليأس العميق، ويرسم لوحة سوداوية للوضع، مستعينًا بكلمات صريحة
قاسية تظهر إدانته للأفعال والخيانات المتتالية في العالم العربي، ولضعف الاستجابة تجاه الأحداث المتسارعة
التي تهدد الشعوب وتاريخها.
أسلوب نزار قباني في القصيدة
أسلوب نزار في القصيدة هو الأسلوب المباشر المفعم بالمجاز القوي الذي لطالما اشتهر به. يُستخدم السخرية،
والتشبيه، والاستعارة ليعبر عن سخطه تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية، فتبدو القصيدة جرس إنذار ينبه من
خطر التخاذل والفرقة. نزار يجمع بين البساطة اللغوية وعمق المعنى، مما جعل كلماته تصل بقوة إلى قلوب
الجماهير وتلقى رواجًا كبيرًا، حيث تمثل صرخة تعبر عما يجيش في نفوسهم.
قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب”:
أحاول منذ الطفولة رسم بلاد تُدعى مجازًا بلاد العرب،
تسامحني إن كسرت زجاج القمر،
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب،
وتسمح لي أن أمارس الحب،
كعصافير الشجر.
أحاول رسم بلاد
تعلمني أن أكون على مستوى العشق دائمًا،
فأفرش تحتك، صيفًا، عباءة حبي،
وأعصر ثوبك عند هطول المطر.
أحاول رسم بلاد
لها برلمان من الياسمين،
وشعب لطيف من الياسمين.
تنام حمائمها فوق رأسي،
وتبكي مآذنها في عيوني.
أحاول رسم بلاد تكون صديقة لشعري،
ولا تتدخل بيني وبين ظنوني.
ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني.
أحاول رسم بلاد
تكافئني إن كتبت قصيدة شعر،
وتصفح عني إن فاض نهر جنوني.
أحاول رسم مدينة حب
محررة من كل عقد،
لا يُذبح فيها الأنوثة،
ولا يُقمع الجسد.
رحلت جنوبًا… رحلت شمالًا…
ولا فائدة…
فكل المقاهي لها نكهة واحدة،
وكل النساء إذا تعرّين لهن نفس الرائحة،
وكل رجال القبيلة لا يمضغون الطعام،
يلتهمون النساء في ثانية واحدة.
أحاول منذ البداية
ألّا أكون شبيهًا بأي أحد،
رفضت دومًا الكلام المعلب،
ورفضت عبادة أي وثن.
أحاول حرق كل النصوص التي أرتديها،
فبعض القصائد قبور،
وبعض اللغات أكفان.
ووعدت آخر أنثى،
ولكنني جئت بعد مرور الزمن.
أحاول التبرؤ من مفرداتي
ومن لعنة المبتدأ والخبر،
وأنفض غباري،
وأغسل وجهي بماء المطر.
أحاول الاستقالة من سلطة الرمل،
وداعًا قريش،
وداعًا كليب،
وداعًا مضر.
أحاول رسم بلاد
تُدعى مجازًا بلاد العرب،
سريري ثابت فيها،
ورأسي ثابت فيها،
لأعرف الفرق بين البلاد وبين السفن.
لكنهم… أخذوا علبة الرسم مني،
ولم يسمحوا لي بتصوير وجه الوطن.
أحاول منذ الطفولة
فتح فضاء من الياسمين،
وأسست أول فندق حب في تاريخ العرب،
ليستقبل العاشقين.
وألغيت كل الحروب القديمة
بين الرجال والنساء،
وبين الحمام ومن يذبحون الحمام،
وبين الرخام ومن يجرحون بياضه.
لكنهم… أغلقوا فندقي،
وقالوا إن الهوى لا يليق بماضي العرب،
وطهرهم، وإرثهم.
فيا للعجب!
أحاول تخيل شكل الوطن؟
أحاول استعادة مكاني في بطن أمي،
وأسبح عكس تيار الزمن،
وأسرق تينًا ولوزًا وخوخًا،
وأركض كالعصافير خلف السفن.
أحلم بجنة عدن،
وكيف سأقضي إجازتي بين نهور العقيق،
ونهور اللبن.
لكن حين أفقت…
اكتشفت هشاشة حلمي،
فلا قمر في سماء أريحا،
ولا سمك في مياه الفرات،
ولا قهوة في عدن
أحاول بالشعر الإمساك بالمستحيل،
وأزرع نخلاً،
لكنهم في بلادي يقصون شعر النخيل،
أحاول جعل الخيل أعلى صهيلاً،
لكن أهل المدينة يحتقرون الصهيل!
أحاول سيدتي أن أحبك
خارج كل الطقوس،
وخارج كل النصوص،
وخارج كل الشرائع والأنظمة.
أحاول أن أحبك
في أي منفى أذهب إليه،
لأشعر حين أضمك إلى صدري
بأني أضم تراب الوطن.
أحاول منذ طفولتي قراءة أي كتاب
يتحدث عن أنبياء العرب،
وحكمائهم، وشعرائهم،
فلم أر إلا قصائد تتملق الخليفة،
لأجل جفنة رز، وخمسين درهم.
فيا للعجب!
لم أر إلا قبائل لا تميز بين لحم النساء والرطب.
فيا للعجب!
ولم أر إلا صحفًا تخلع أثوابها الداخلية
لأي رئيس يأتي من الغيب،
وأي عقيد يمشي على جثة الشعب،
وأي مرابٍ يكدس الذهب.
فيا للعجب!
أنا منذ خمسين عامًا،
أراقب حال العرب.
يرعدون ولا يمطرون،
يدخلون الحروب ولا يخرجون،
يعلكون جلود البلاغة ولا يهضمون.
أنا منذ خمسين عامًا
أحاول رسم بلاد تُدعى مجازًا بلاد العرب،
رسمت باللون الأحمر أحيانًا،
وأحيانًا باللون الغاضب.
وحين انتهى الرسم، سألت نفسي:
إذا أعلنوا يومًا وفاة العرب،
ففي أي مقبرة يدفنون؟
ومن سيبكي عليهم؟
وليس لديهم بنات،
وليس لديهم بنون،
ولا حزن هناك،
ولا أحد ليحزن عليهم.
أحاول منذ بدأت شعري
قياس المسافة بيني وبين أجدادي العرب.
رأيت جيوشًا… ولا من جيوش،
رأيت فتوحات… ولا من فتوح.
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفاز،
قتلى على الشاشة،
وجرحى على الشاشة،
ونصرٌ من الله يأتي إلينا على الشاشة.
وطني، جعلوك مسلسل رعب
نتابع أحداثه في المساء.
فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء؟
أنا… بعد خمسين عامًا
أحاول تسجيل ما رأيت.
رأيت شعوبًا تظن أن رجال المباحث
أمرٌ من الله، مثل الصداع، مثل الزكام،
مثل الجذام، مثل الجرب.
رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم،
ولكنني… ما رأيت العرب!
ختاماً: تأثير القصيدة ووقعها
تعد القصيدة بمثابة “مانيفستو” يعبر عن صوت الإنسان العربي الذي أنهكته الحروب والسياسات الفاشلة
والتراجع الثقافي. وقد ألهبت هذه القصيدة الحماس في نفوس الكثيرين، ولكنها أيضًا واجهت انتقادات من بعض
الأطراف التي لم ترقها الرسالة القوية والانتقادات التي تخللتها. ظلت كلمات نزار قباني في هذه القصيدة
حاضرة في ذاكرة الجماهير كأحد أكثر الأعمال الأدبية جرأةً وصدقًا في نقد الذات العربية.