كروية أم مسطحة
مقال رائع وعميق، ويغوص في جوهر النقاش العلمي والديني حول مسألة شكل الأرض من خلال التأكيد
على ضرورة توجيه هذا الحوار نحو نقاش علمي هادئ بعيدًا عن الانفعالات، مع التركيز على أن العلم لا
يتعارض مع الإيمان، بل يكمله.
كاتب المقال : سومر أحمد
بعد جدال استمر لأيام، قررت وضع حد لهذه المعركة الغير واضحة القواعد، قلت له: “لُنبعد كتاب الله
عن هذا الصراع، ولنكتفي بالإثبات العلمي”جن جنونه، رماني بسهام السطحية، أوشك على قذفي
بالإلحاد، واللادينية، ولم يرى ضيرًا في إلصاق تهمة الماركسية بي-لا أدري كيف- ولا أعلم حتى إن
كانت تصلح كتهمة، لكني بعد هذا انتقلت لمستوى آخر من الصراع معه، من إثبات كروية الأرض إلى
إثبات صدق إيماني بالله وعدم خروجي عن تعاليم اللاهوت.
صديقي هذا (معتنق فكرة الأرض المسطحة) أخذ دور الكنيسة وكنت أنا جاليليو واتهمني بهالهرطقة.
إذًا فإني لست ُهنا لأقدم براهينًا تدعم رأي أيًا من الطرفين على حساب الآخر ، كرويًا ُكنت أم ُمسطحًا
لن تجد في مقالي هذا ما يغضبك أو يفرحك، لكني سُأجرد الطرفين من سلاح قد ُيعد الأبرز في جدالاتهما،
ألا وهو الاستشهاد بآية القرآن والكتب المقدسة الأُخرى.
لتتركوا نتاج القرون في هذا الصدد خلف ظهوركم، فلو قرر أي منكم حشد مؤيديه من العلماء والفلاسفة
والباحثين لالتف حوله الكثير منهم، لأن هذا الصراع الغير محسوم قديم بقدم بدء عمل العقل البشري
المنظم، أي منذ قام “كزينوفان” بنقد الأسطورة كوسيلة لتفسير الظواهر سنة ٥٧٠ق.م، وبالمناسبة
فإن حقيقة شكل الأرض لم يشكل الهاجس الأكبر للفلاسفة والباحثين اليونانيين الأوائل وغيرهم كما
يصور الأمر (أصحاب نظرية المؤامرة)، بل كان ُجل آمالهم أن يجدوا البحث وراء معرفة “القانون الثابت
للتغير المستمر” فنرى أن معظم الفلاسفة قبل سقراط احتفظوا بنموذج الأرض المسطحة حتى وافق
أرسطو على نموذجًا كرويًا لهذه الأرض، ولم نرى استماتة من ناقديه من الفلاسفة اللاحقين ومدارسهم
في الدفاع عن فكرة الأرض المسطحة، لا من الكلبية ولا الأبيقورية ولا الرواقية، في حين استمرت معاركهم
ساخنة في ميادين فكرية أخرى. إذًا فإن الاستشهاد بالفلاسفة الأولين في إثبات أي الامرين سيكون
حقيقة وكأنك تأتي ب”فان جوخ” ليرسم لك صورة تخيلية عن الفضاء الخارجي ونسيج الزمكان.
إنه يا صديقي استثمارنا الخاطئ للنصوص الدينية والقضايا اللاهوتية، فإن القرآن الكريم حين صرح في
الآية 5 من سورة الزمر{ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} والكتاب المقدس في إشعياء
22:40 {الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب} لم تكن الغاية الإلهية التصريح عن شكل الأرض
بل كانت إبراز قوة الله في صنعه ليؤمن بقدرته المؤمنون، دون ضرورة لتحديد آلية الصنع هذه، لكن
المتعصبين للدين عادة ما يكونون الدوغمائيين كثيري الصراخ، والدليل أن مؤيدي قرار إدانة جاليليو
بهالرطقة هم طبقة اعتنقت نموذج فلكي أرسطوي يتناسب مع تفسير حرفي مغلوط لنصوص دينية
في الكتاب المقدس، يخيل لي أ َّن جاليليو كان يهتف طوال الوقت امام المحكمة” لا أعارض الكتاب
المقدس، لكنكم انتم من أسأتم فهمه ولصقتم تفاسيره بنظريات السابقين من الفلاسفة
لتجنبوه اللغط، فشوهتم معناه” ساعد على تأجيج هذا الصراع بروز “العلم الزائف” وهو العلم
الذي ينطوي على تصريحات واعتقادات وممارسات وفرضيات لا تتوافق مع المنهجية العلمية، وهذا ما
أدى إليه سعي الكاتب الإنجليزي صموئيل روبوثام في القرن التاسع عشر، فعادت نظرية الأرض
المسطحة من باب علمي يعتمد على فرضيات روبوثام التي تقول بأن للأرض مركز هو القطب الشمالي
وحواف جليدية تحبس مياه المحيطات هي الجدار الجليدي (القطب المتجمد الجنوبي) وبأن الشمس
والقمر يقعان على ارتفاعات تقارب ال(3000ميل) لا أكثر، لتبدأ بعدها جولة أخرى من الصراع، لم تنتهي
حتى بعد عرض صور للأرض الكروية من الأقمار الصناعية سنة ،1956 إذ جاء على لسان
(صموئيل شينتون) وهو مدير جمعية الأرض المسطحة الدولية:
” من السهل إن نرى كيف أ َّن صورة من هذا القبيل يمكن أن تخدع العين غير المدربة”.
الآن وبعد دخول هذا الصراع مضمارًا بتضاريس قاسية في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح حسم
الأمر من المستحيل، حتى وإن بدت كروية الأرض بديهية للكثيرين، فقد أصبح لمعتنقي فرضية الأرض
المسطحة ما يشبه الأساس لعلمهم، والنهاية أن الالتقاء لوضع فكرة نهائية أصبح شبه مستحيل،
لأن كلا الفكرين يقيم علمه في فلك منفصل عن الآخر…
من الضروري تحييد الكتب المقدسة عن هذه الصراعات لسبيين، أولهما عدم المساس بقدسيتها
نتيجة فهم خاطئ يعارض ما تشير إليه، وثانيهما لكي يتاح للعلم الخوض في غمار الممكن قدر
المستطاع دون الخوف من المساس بقدسية النصوص اللاهوتية.
ِختامًا لا بد من القول والتسليم بأن إرادة خالق الكون فوق كل نية وكل إرادة، ولا يتعدى بحثنا هذا
عن كونه محاولة للانتقال إلى علوم أكثر جدوى وأكثر قابلية للاستثمار التطبيقي النافع، و لا ينفي
قدرة الخالق في وجداننا أيًا كان شكل الأرض، كروية، مدحية، مسطحة، أو حتى على ظهر سلحفاة
تسبح في الأثير، فإن شاء الخالق غ َّير قوانين الكون التي نركب على أساسها كل منتوجاتنا في ميادين
العلم والفكر. فلا نستطع لبعضها طلبًا.
كاتب المقال : سومر أحمد
توضيح بعض معاني المقال :
توضيح لمعنى : الهرطقة
الزمكان هو مفهوم في الفيزياء يجمع بين الزمان و المكان في إطار واحد متصل. في النظرية
النسبية لأينشتاين، يُنظر إلى الزمان والمكان على أنهما لا ينفصلان، بل يشكلان نسيجًا رباعي
الأبعاد يُعرف باسم “الزمكان” (Space-time).
في هذا النموذج، لا يمكن فهم الزمان و المكان بشكل مستقل عن بعضهما البعض؛ بل هما
مرتبطان بطريقة تجعل الأحداث التي تحدث في الكون تعتمد على كلا البعدين معًا. يتم تمثيل
الزمكان بأربعة أبعاد:
ثلاثة أبعاد مكانية (الطول، العرض، والارتفاع).
بعد واحد زمني (الزمن).
وفقًا لهذه النظرية، تتحرك الأشياء في الزمكان بسرعة ثابتة، وأي جسم يتحرك بسرعة كبيرة،
مثل سرعة الضوء، يتأثر الزمن الخاص به. بمعنى آخر، مع تسارع حركة الجسم في الفضاء،
يتباطأ الزمن بالنسبة له. هذه العلاقة بين الزمان والمكان تؤدي إلى تأثيرات مثل تمدد الزمن
وانحناء الفضاء بسبب الجاذبية.
مثال مبسط:
إذا كنت تسافر بسرعة قريبة من سرعة الضوء، فسيبدو أن الزمن يمر أبطأ بالنسبة لك مقارنة
بشخص آخر على الأرض، وهذا يرجع إلى تأثيرات الزمكان.
الزمكان هو بالتالي إطار يجمع بين المفاهيم الأساسية للزمان والمكان، ويفسر كيفية تفاعل
الأجسام والظواهر الكونية في الكون.
توضيح لمعنى : الدوغمائية
الدوغمائية (أو الدوغماتية) تشير إلى التمسك الأعمى والمطلق بأفكار أو عقائد معينة دون قبول
النقاش أو النقد أو التشكيك فيها. الشخص الدوغمائي هو الذي يتبنى معتقدات أو أفكار بشكل
جامد وغير مرن، ويرفض أي تغيير أو رؤية مختلفة عن تلك المعتقدات، حتى لو كانت هناك أدلة منطقية
أو علمية قوية تدحضها.
بمعنى آخر، الدوغمائيين هم الأشخاص الذين يلتزمون بأفكارهم أو معتقداتهم كما هي، ويعتبرونها
حقائق مطلقة وغير قابلة للنقاش، وغالباً ما يرفضون التفكير النقدي أو الانفتاح على آراء جديدة.
عادةً ما تُستخدم الدوغمائية في سياقات دينية أو سياسية، لكنها يمكن أن تشير إلى أي مجال
يلتزم فيه الشخص بموقفه بغض النظر عن الأدلة التي قد تناقضه.
بناء جسور التفاهم بين الأطراف المختلفة دون التنازل عن المبادئ الأساسية.
في خضم هذا النقاش الذي يبدو بلا نهاية حول كروية الأرض أو تسطحها، يكمن الحل الحقيقي
في بناء جسور التفاهم بين الأطراف المختلفة. فلا يعني الالتقاء في منتصف الطريق التنازل عن
المبادئ الأساسية التي يؤمن بها كل طرف، بل يعني إيجاد لغة مشتركة للتواصل تسهم في تعزيز
الفهم المتبادل. فالعلم والإيمان، على حد سواء، يمتلكان أدوات بحث عن الحقيقة، ولكل منهما
أساليبه ومناهجه.
الأرض كروية أم مسطحة؟ مهما كان الجواب، فإن الهدف الأسمى يجب أن يكون استخدام
هذا النقاش كوسيلة لبناء تفاهم أعمق بين العقول، والتأكيد على أن الحقائق العلمية ليست
في تضاد مع الإيمان بل قد تعزز قناعاتنا الروحية. وفي النهاية، فإن سمو الحوار يكمن في اعترافنا
بحدود معرفتنا البشرية وقبول الاختلافات بعقلانية ورحابة صدر.
في الختام:
يجب أن نعلم أن فكرة قد توضح النقاشات الكبيرة كمسألة شكل الأرض، يمكن أن تكون فرصة
للتقريب بين الأفكار بدلاً من تأجيج الانقسامات.